ربما لم يدُر بخلد "أندريا روسو" الإيطالي الذي أطلق في ديسمبر 2015 صفحة على "فيسبوك" بعنوان (Sii come Bill)، وتعني بالعربية (كن مثل بيل)، أن "بيل" هذا سيتصدر تغريدات وسائل التواصل الاجتماعي، وسيغدو حديث العالم أجمع في أيام معدودات، وسيبلغ عدد المعجبين بالنسخة الإنجليزية من صفحته نحو مليون ونصف، حتى أن محرك البحث "جوجل" يقدم حوالي مليار نتيجة لـ(Be Like Bill) و700 ألف لـ(كن مثل بلال). وسواء كان "بيل" الأمريكي، أو "خوسيه" الإسباني، أو "بلال" العربي، فقد طبقت شهرته الآفاق بتلك الشخصية الكاريكاتورية البدائية الرسم، وبنصائحه وتوجيهاته التي تنقد ظواهر سلبية في العالم الافتراضي وممارسات خاطئة في الواقع الحقيقي، وتدعو إلى تصحيحها مثلما فعل الذكي "بلال". لكن، هل أنت حقاً بحاجة إلى أن تكون مثل "بلال"؟
من المفهوم والمقبول، بل والمطلوب أن تقتدي بـ"بلال" باحترامه للقوانين وتقديره للآخرين، وما وراء ذلك فهو الشطط المرذول، فأنت لست كـ"بلال" في طريقة حديثك وتعبيرك عن نفسك، وفي أفكارك واهتماماتك، وفي ملكاتك ومواهبك وشغفك، وفيما يحفزك ويثبطك، وفيما يسعدك ويحزنك. وإذا كانت بصمة الأصابع والعين حاسمة في المجال الأمني، فإن بصمة الشخصية حيوية في مجال العلاقات الإنسانية والمسارات الوظيفية.
في السنة الثانية من دراستي الجامعية، طلب محاضر مساق الاقتصاد الهندسي من الطلبة إعداد بحث عن غاز الأوزون واستخداماته الحياتية، بحيث يكون نصف الدرجة لجودة البحث والنصف الآخر لطريقة العرض والإلقاء، ولمَّا كنت مثقلاً في ذلك الفصل، قدَّرت العائد من الجهد المبذول، ثم قررت أن أركز على أمور أثقل وزناً وأعظم تأثيراً، ولم أنسَ نصيبي من البحث. تصفحت الإنترنت الذي لم يكن ذائعاً وشائعاً في نهاية الألفية، ثم اخترت مجموعة من المقالات التي تستعرض الأوزون وتأكدت من فهمي لها وإحاطتي بمحتواها، وبتصرف قليل حتى دون تنسيق أو ترتيب، وبالطبع دون مراعاة أساليب البحث العلمي التي لم أكن قد تعلمتها بعد، قمت بتجهيز بحثي المطلوب وقدمته في الموعد المضروب.
حان موعد عرض وتقديم الأبحاث، مضى الوقت رتيباً، ينادي المحاضر الاسم، فيخرج الطالب ويبدأ بقراءة ورقته وكأنه يحدِّث نفسه، فينشغل الحضور بالهمس الجانبي. لم يكسر رتابة المشهد إلا أوراق يمزقها المحاضر فيرميها بالهواء مخاطباً طلابه: "هل هذا بحث؟ حتى أن صاحبه لم يكلف نفسه عناء تنسيقه! من صاحبه؟ آه... أمجد". ضجّ المدرّج الذي يضم ما يقارب الثمانين من الطلاب بالحركة والضحكات، ولم يقطع تلك الأجواء سوى صوت المحاضر طالباً من صاحب البحث التالي أن يصعد المنصة لتقديم بحثه.
عندها رفعت يدي طالباً الإذن بالحديث: "دكتور، أتفق معك تماماً، حتى أنني لن أتجرأ على تسمية هذه الأوراق بحثاً، لكن لا يزال لديَّ فرصة في عرض المحتوى لو أذنت لي". ولمّا أذن لي بتقديم ورقتي، ارتقيت المنصة، وتوجهت إلى أستاذي مخاطباً أو نحواً من ذلك قلت: "في البداية أشكر لك يا دكتور إعطائي هذه الفرصة، إلا أنني كنت أنتظر منك التوجيه لا التقريع... وأياً يكن فقد تعلمت من هذا الموقف درساً سيصحبني في قادم أيامي". التفتُّ بعدها إلى الطلاب ودون النظر إلى الأوراق بدأت في عرض الموضوع بتسلسل منهجي وتقديم ذكي. مع النهاية ملأت أصوات التصفيق ونظرات الإعجاب المكان، وتحوَّل الجحيم إلى نعيم.
هذا الطالب الجامعي لم يفعل أكثر من الاتساق مع شخصيته وذاته فلمع وسطع يومها. هو نفسه الذي وقف قبلها بسنوات في اجتماع مجلس الطلبة في المدرسة طالباً من المدير المهيب الجناب أن يتفضل بعدم إشعال سيجارته، هو نفسه بعد ذلك في لقاءاته ومحاضراته ودوراته أمام أصناف وأمزجة مختلفة ومتباينة من البشر، هو نفسه الذي تقدَّم للحصول على شهادة اعتماد أحد مساقات المؤسسة الأوروبية لإدارة الجودة EFQM، وعندما أنهى عرضه الذي يناقش نموذج التميز المؤسسي كأحد متطلبات الاعتماد، أخبره زميله في قاعة الدراسة المستشار البوسني أنها كانت من أمتع العروض التي استمع إليها واستمتع بها فألهمته.
في كتاب (سر النجاح) الذي ترجمته ونشرته الشركة العربية للإعلام العلمي، يشير "ماركوس باكنجهام" إلى ثلاث حقائق تعتبر أساساً لبناء نجاحك في الحياة، سأعرض اثنتين منها:
• الحقيقة الأولى: جوهر ذاتك وبصمة شخصيتك ستظل صفات ثابتة لا تتغير مع مرور العمر. فإذا كنت تجيد عقد الصداقات اليوم، فستجيد ذلك بعد عشرين سنة. وإذا كنت تستمتع بمساعدة الناس وتوجيههم فستبقى كذلك. وإذا كنت مهووساً بالترتيب والنظام فسيصاحبك ذلك. وإذا كانت الكتابة والتأليف شغفك، ستموت والقلم بين أصابعك أو لوحة المفاتيح بين يديك. وإذا كنت مبتكراً، فستظل هكذا لبقية حياتك. بالتأكيد مع تقدم العمر ستنضج شخصيتك، وتنمو معارفك ومهاراتك، وقد تتغير أحلامك وطموحاتك، ولكن جوهر ذاتك (مثل الجاذبية الشخصية وحب المنافسة) يتطور، لكنه لا يتغير.
• الحقيقة الثانية: تركيزك على مواهبك الفطرية ونقاط قوتك الطبيعية يقودك إلى تحقيق إنجازات أعظم. ليس المقصود أن تتجاهل نقاط ضعفك، لكنها دعوة لأداء الأدوار التي تظهر نقاط تفوقك وتشعل جذوة حماستك. أسمعك تسألني، كيف يمكنني اكتشاف مواطن تفوقي الكامنة؟ تستطيع ذلك بالانتباه إلى الأعمال والأنشطة التي تقوم بها، قبل وفي أثناء وبعد تأديتها:
• قبل العمل: تجد نفسك مشتاقاً توّاقاً شغوفاً لبدء هذا النشاط.
• في أثناء العمل: تندمج حد الاستغراق الذي ينسيك ما حولك فيتطاير الزمن دون أن تشعر.
• بعد العمل: تشعر بالسعادة تغمرك، والرضى يحيط بك، والفرحة تقفز من عينيك. كلما اكتشف الإنسان مواطن قوَّته وعناصر تفوقه ونقاط تميُّزه يكون أقرب إلى إرضاء ذاته، وإسعاد أهله، وبناء وطنه، ويصير أكثر فاعلية في حياته الشخصية والوظيفية، وعندما ننشغل بمحاكاة "بلال" و"جمال" و"كمال" فالنتيجة، نعم، النتيجة سراب، يحسبه الظمآن ماء وهو تراب. لا تكن "بلالاً"، كن أنت تزدد جمالاً.
بقلم: أمجد نصر الله
0 النعليقات:
إرسال تعليق
نرجوا التفعال مع المواضيع ولو بكلمة واحدة شكرا فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله ..و والله ليس حبا فى الشكر ولكن من اجل ان ينتفع عدد اكبر من الناس من المواضيع وذالك بجعلها فى مقدمة نتائج البحث شاركنا الاجر والثوواب