توطئة :
السلطة التقديرية هي : إحدى الامتيازات القانونية للإدارة، وهو حق يمنح الإدارة ممارسة نشاطها العادي في الظروف الطبيعية، واتخاذ القرارات الإدارية الملائمة في حالة وجودها أمام ظروف معينة، ولم يُلزمها القانون من اتخاذ قرار معين بصدد هذه الحالات الخاصة الخارجة عن ظروف عملها الطبيعية. وتُعد "السلطة التقديرية" إحدى أهم الصلاحيات الإدارية الواسعة والاختصاصات التنظيمية المُخولة التي يتمتع بها المديرون والمسؤولون عند اتخاذهم القرارات الإدارية في حال غياب نص نظامي يُعالج مسألة أو موضوعاً أو قضية إدارية أو مالية ما، سواءً في الظروف الاعتيادية أو الاستثنائية.
إن تمتع الإدارة بسلطة تقديرية يقوم على أساسيين : الأول تبرير عملي، والثاني مصدر نظامي. أي : ينبغي أن تتصور دائماً أن السلطة التقديرية مرتبطة بفكرة التنظيم القانوني، (أي : نتيجة مستخلصة من حال معينة للتنظيم القانوني).
ولعل من أمثلة السلطة المقيّدة للإدارة ــ بخصوص استحقاق الموظف إجازة مرضية ــ ؛ أنه إذا صدر تقرير طبي معتمد من مستشفى حكومي ــ وفق لائحة الإجازات المرضية ــ، وجب على (صاحب الصلاحية) إصدار قرار بمنح إجازة مرضية للموظف، فليس للإدارة أي سلطة تقديرية. ومن أمثلة السلطة التقديرية للإدارة ؛ هو حقها في منح خطابات الشكر.

• تعريف السلطة التقديرية :
اختلف الفقه في تحديد مفهوم السلطة التقديرية، فقد ذهب جانب منه إلى القول إن مصدر هذه السلطة إنما يكمن في إرادة المشرّع وحدها، مما يعني أن المشرّع في نظرهم هو صاحب القول الفصل فيما إذا كان للإدارة ــ تجاه نشاط معين ــ قدر من حرية التقدير من عدمه، وذلك بتدخله أو عدم تدخله في تنظيم ذلك النشاط أو تحديد عناصره تحديداً دقيقاً، لذلك فقد أعطى هذا الجانب من الفقه للسلطة التقديرية تعريفاً إيجابياً معتبراً إياها بمنزلة حق للإدارة معترف به من قبل المشرع الذي قد يجد نفسه في وضع يستحيل معه أن يُبيّن للإدارة الأسلوب أو المسلك التنظيمي الذي تباشر به نشاطاً معيناً، أو قد يرى أنه من الأفضل أن يترك لها قدراً من الحرية في مباشرة أعمالها، حتى تتمكن من أداء المهام الموكلة إليها. وهذا يعني في النهاية أن الإدارة تتمتع ــ في حالة السلطة التقديرية ــ بحرية شرعية في ممارسة نشاطها، فلا تكون خاضعة في ممارسة هذا النشاط الإداري لأي التزام قانوني، ومن ثم لا يمكن أن توصم عند إجرائه بعدم الشرعية.
وإضافة إلى ذلك فقد تبنى جانب من الفقه تعريفاً سلبياً للسلطة التقديرية لا يرتبط أساساً بالقيود التي يضعها القضاء الإداري على نشاط الإدارة، ومن ثم فإنهم ينتهون إلى تعريف تلك السلطة بطريقة سلبية حيال هذا الدور، أي : حيال ما يمارسه القضاء الإداري من رقابة على أعمال الإدارة، على أساس أن السلطة التقديرية لا تتحقق أو لا يعترف بها للإدارة إلا فيما لا يخضع من تصرفاتها لرقابة هذا القضاء، لذلك عبر بعض الفقه ــ الذي ينتمي إلى هذا الاتجاه ــ بأن السلطة التقديرية لا توجد إلا في الحالات التي تستقل فيها الجهة الإدارية وبمعزل عن الرقابة القضائية، بتقدير تناسب الواقعة مع قاعدة القانون، وتتوقف هذه السلطة عن كونها تقديرية متى خضعت الإدارة عند إجرائها لهذا التقدير للرقابة القضائية. وفي الحقيقة إن الاتجاهين السابقين يتكاملان، إذ تكون السلطة التقديرية هي المجالات الإدارية التي لا يُحدّد المشرع مسلك الإدارة اتجاهها مسبقاً، وتكون سلطة القضاء الإداري تجاهها (مقيدة) عند نهوضه بمهمة الرقابة على أعمال الإدارة (1).

• نظرية السلطة التقديرية :
يُحدّد المنظم عند تقرير اختصاصات الإدارة أحد السبيلين، فإما أن يمنحها سلطة مقيدة، أو سلطة تقديرية. فإذا كان المنظم قد حدّد للإدارة شروط ممارسة الاختصاص ورسم لها حدوده وأجبرها على التدخل في حالة توفر هذه الشروط كانت سلطة الإدارة في هذه الحالة سلطة مقيدة، أما إذا ترك المنظم للإدارة قدراً من حرية التقدير سواءً بالنسبة لاتخاذ الإجراء أم عدم اتخاذه أو بالنسبة لأسباب اتخاذه، بحيث تمتلك تقدير ملائمة التصرف واختيار الوقت المناسب لاتخاذه كانت سلطة الإدارة تقديرية. ويُقصد بالسلطة التقديرية للإدارة (نظرياً) حرية الإدارة في التصرف أو عدم التصرف، وفي اختيار القرار والوقت المناسبين على أن يتم ذلك في إطار تطبيق القانون وحرية التقدير في ملائمة إصدار القرارات، فعندما يترك القانون للإدارة حرية التصرف في شأن من الشئون يُقال لها سلطة تقديرية، أما إذا قيّد حريتها في أمر ما فلا تستطيع أن تتصرف إلا على نحو معين فإن اختصاصها في هذا الأمر يكون اختصاصاً مقيداً.
إن طبيعة العمل الإداري تجعل من المستحيل على المنظم أن يُحدّد منهاجاً أو يُعيّن مساراً مسبقاً تلتزمه الإدارة في مباشرة مهامها أو أن يرسم لها الموقف الواجب اتخاذه والقرار المفترض إصداره بمواجهة كل حالة أو ظرف (الصلاحيات)، لأنه لا يُدرك القصور ولا يتنبأ بالظروف التي ستحيط بكل تصرف، مما يستلزم عليه ترك سلطة تقديرية للإدارة للتصرف على ضوء الظروف والمتغيرات والمستجدات، فلا يدخل المنظم في جزئيات وتفصيلات النشاط الإداري إلا في حالات معينة أو استثنائية.

• مبررات السلطة التقديرية :
توجد عدة مبررات وأسباب يقدمها فقهاء القانون الإداري للتمكين من ممارسة السلطة التقديرية للإدارة، من أهمها :
1- أن تقييد سلطة الإدارة ــ خاصة في الحقل التربوي ــ يعدم ملكة الابتكار والتجديد لديها، فدور الإدارة لا يقتصر على كونها مجرد أداة لتنفيذ القانون فحسب، لأن هذا من شأنه أن يصف نشاطها بالجمود والركود ويعدم لديها ملكة الإبداع.
2- أن المنظم يعجز عن الإحاطة بملابسات وظروف الوظيفة الإدارية، فالمنظم وهو يسن القوانين لا يستطيع أن يتصور جميع ملابسات وظروف الوظيفة الإدارية بحيث يضع لكل حالة حكمها، ولكل احتمال الحل المناسب لمواجهته.
3- أن إعمال مبدأ «سير المرافق العامة بانتظام واطراد» يتطلب الاعتراف للإدارة بسلطة تقديرية لاختيار أنسب الوسائل وأفضل الأوقات للقيام بالعمل الإداري واتخاذ القرارات اللازمة أو الملائمة لضمان ذلك، وهو واجب تلتزم به الإدارة، ويستلزم أن يوفر لها القانون السلطة التي تمكنها من القيام به.
4- أن خبرة الإدارة وتجاربها السابقة ووسائلها الخاصة التي تستنبط منها معلوماتها والروح العملية التي تستمد منها الإدارة إشرافها المستمر ــ وفق اختصاصها ــ على إدارة المرافق العامة يُبرّر بجلاء إعطاء الإدارة قدراً معقولاً من حرية التصرف لتحقيق المصلحة العامة.
5- أن السلطة التقديرية هي : الوسيلة الناجعة والفعالة التي تتيح للإدارة القيام بالتزاماتها ومواجهة الاحتياجات العامة للأفراد لأنها تستطيع بمقتضى سلطتها التقديرية اختيار أنسب الوسائل وأفضل الأوقات لكي تقوم بالعمل أو تمتنع عن القيام به وتتخذ القرارات الإدارية اللازمة والملائمة.

• مجال السلطة التقديرية :
للسلطة التقديرية مجال، ويُقصد بمجال السلطة التقديرية الحالات التي تظهر بها هذه السلطة، أي : الحالات التي تتمتع الإدارة فيها بسلطة تقديرية، وهي الحالات التي لا تكون فيها سلطة الإدارة مقيدة.
فمن المسلَّم به أن للقرار الإداري خمسة عناصر، هي : (الاختصاص ــ الشكل ــ السبب ــ المحل ــ الهدف)، ومن المسلمات أيضاً أن عنصري (الاختصاص ــ الشكل) في القرار الإداري تجري عليهما السلطات المقيدة للإدارة بحيث يكون مخالفاً لمبدأ المشروعية عدم التقيّد بالاختصاص أو عدم مراعاة الشكل الذي نص عليه القانون لظهور القرار الإداري، وعليه فلابد لكل جهة أو شخص مراعاة قواعد (الاختصاص ــ الشكل) المنصوص عليهما قانوناً، لأن كلاهما لا يشتمل على سلطة تقديرية.
أما العناصر الأخرى للقرار الإداري وهي : (السبب ــ المحل ــ الهدف) فقد تكون من السلطات المقيدة أو التقديرية. ولا تعتبر الإدارة ــ عند ممارستها لسلطتها التقديرية ــ خارجة على «مبدأ المشروعية» لأن ما تتمتع به من حرية اختيار وتقدير قد تقرر لها من خلال المنظم نفسه، ولأن ما يصدر عنها من قرارات في نطاق سلطتها التقديرية أو المقيدة تبقى خاضعة لرقابة القاضي الإداري الذي يحكم بإلغائها أو بإلغائها والتعويض عن الأضرار التي تتسبب فيها لمخالفتها لمبدأ المشروعية، والأصل أن القضاء الإداري لا يُراقب استخدام الإدارة لسلطتها التقديرية ما دام أن قرارها الإداري في حدود القانون.

• ضوابط السلطة التقديرية :
وهذا يقود للقول بأن هناك عدة ضوابط ينبغي مراعاتها عند استخدام الإدارة لسلطتها التقديرية حتى يكون عملها متفقاً مع «مبدأ المشروعية» القانونية، وأبرز هذه الضوابط :
1- مراعاة قواعد (الاختصاص ـ الشكل أو الإجراءات التنفيذية) التي نص عليها القانون.
2- أن يكون الهدف من القرار الإداري المتخذ تحقيق المصلحة العامة.
3- أن تكون قرارات الإدارة مبنية على أسباب صحيحة.
(فمثلاً : لا يجوز منح معلم إجازة طارئة بينما هو لم يطلبها).
4- ينبغي للإدارة أن تقوم بالتكييف القانوني السليم للوقائع التي استندت عليها في إصدارها للقرار الإداري، وللقضاء رقابة على ذلك، وحتى لا يكون هناك مخالفة للقوانين.
(فلا يجوز مثلاً : توقيع عقوبة على قائد مدرسة دون مخالفة تأديبية).
5- أن رقابة القضاء الإداري على أعمال الإدارة هي رقابة مشروعية وليست رقابة ملائمة.
والقول بغير ذلك معناه : حلول السلطة القضائية محل السلطة التنفيذية وهذا ما لم يقل به أحد، كما أنه يستحيل على القاضي الإداري أن يمارس دوماً رقابة ملائمة على تصرفات الإدارة لبعده عنها ولعدم إمكانية الإحاطة بالظروف والملابسات التي تحيط بالإدارة وهي بصدد إصدار قرار إداري في نطاق ممارستها لسلطتها التقديرية.

• ضوابط السلطة التقديرية في الفقه الإسلامي :
في الأصل يُشترط لكل التصرفات الإدارية أن تكون متوافقة مع قواعد موضوعة من قبل، أي : خضوع تلك التصرفات لنصوص الشريعة الإسلامية والأنظمة الصادرة بالاستناد إليها، حتى لا تتعرض تلك التصرفات للبطلان والإلغاء، لذا يجب تقييد العمل بالسلطة التقديرية بالضوابط الآتية :
1- عدم مخالفة النص من الكتاب أو السنة : يجب على رجل الإدارة في كل تصرفاته أن ينظر في نصوص الكتاب والسنة المطهرة، فإن وجد الحكم في أحدهما منصوصاً عليه (بالوجوب) أو (الحظر)، كانت سلطته مقيدة بما هو منصوص عليه، وأما إن خيّره النص، أو سكت عن بيان حكم تلك القضية، كان له الحرية في التعامل (إدارياً) إزاءها.
2- عدم مخالفة الإجماع : فإذا كانت القضية غير منصوص عليها لا في الكتاب ولا في السنة، فعلى رجل الإدارة أن ينظر في ما أجمع عليه علماء الأمة، لأن السلطة كما تتقيد بالنص، تتقيد أيضاً بما هو على إجماع، فيُفترض أن لا يخرج عنه.
3- عدم مخالفة مقاصد الشريعة الإسلامية : إن مبادئ الشريعة موضوعة لمصالح العباد، ودرء المفاسد عنهم، فمن قصد غير ما وضعت له، كان مناقضاً لها فيكون عمله باطلاً، لقوله تعالى : «ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت سعيراً» (النساء : 115)، وعليه يجب أن تكون تصرفات المكلفين سائرة في فلك هذه المقاصد، غير خارجة عنها ولا مصادمة لها، وغير ذلك معناه مخالفة التشريع في مقاصده وأهدافه.
4- عدم مخالفة العرف : جاء الإسلام لإصلاح ما فسد من أوضاع الناس، ولم يكن من أهدافه هدم ما اعتاده الناس من عادات صالحة تعارفوا عليها جيلاً بعد جيل، وهو باحترامه للعرف يكون قد شرعه للناس بناء على القاعدة الفقهية «العادة محكمة» ومقتضى ذلك استقرار المجتمع وضبط الإجراءات الإدارية وفق الأعراف ذات المصلحة المعتبرة شرعاً.
5- عدم مخالفة قواعد سد الذرائع : إن على رجل الإدارة، قبل أن يتخذ أي تصرف إداري، أن ينظر وأن يتأكد أن ذلك التصرف لا يخالف الكتاب أو السنة أو أمراً مجمعاً عليه، ولا يخل بقصد من مقاصد الشارع، وأن يُراعي العرف. وإن سد الذرائع هو نوع من المصلحة لأنه «عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه، قويت التهمة في أدائه، إلى فعل محظور» أو هو الطريق والوسائل حتى لا تؤدي إلى آثارها المقصودة سواء أكانت محمودة أم مذمومة، صالحة أم فاسدة، ضارة أم نافعة. لذا على الإدارة أن تمارس سلطتها التقديرية بحيث لا يكون في قراراتها المتخذة ذريعة إلى مفسدة يمنعها الشارع (2).

• خاتمة :
وبالتالي تكون السلطة التقديرية هي الحيز التي يتركه الدليل الشرعي وهو الإباحة الشرعية، التي لم يرد بشأنها نص. فنصوص الشريعة الإسلامية من الكتاب والسنة المطهرة، أمرت بفعل ما أمرت به لتحصيل المصلحة المترتبة على فعله ونهت عن الفعل المنهي عنه، لدفع الأضرار المترتبة عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ للمزيد : أنظر (الموسوعة العربية).
2 ـ الدكتور خالد خليل الظاهر ـ المعهد العالي للقضاء ـ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية (بتصرف).

الكاتب :  عبدالله أحمد هادي

0 النعليقات:

إرسال تعليق

نرجوا التفعال مع المواضيع ولو بكلمة واحدة شكرا فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله ..و والله ليس حبا فى الشكر ولكن من اجل ان ينتفع عدد اكبر من الناس من المواضيع وذالك بجعلها فى مقدمة نتائج البحث شاركنا الاجر والثوواب

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الارشيف

مشاركة مميزة

المشاركات الرائجة